من الأمثلة الهامة على علاقة الرياضيات بالثقافة السائدة هو ظروف ولادة علم الجبر في مطلع القرن التاسع الميلادي, التي تشير إلى أن الرياضيات ” منتج ثقافي “, وليست محايدة ثقافياً. وهذا ما سنتطرق إليه في هذه الفقرة.
من المعروف أن ” علم المواريث “, أو ” علم الفرائض “, أو ” فقه المواريث ” جزء لا يتجزأ من الفقه الإسلامي. وقد بدئ بتأسيس ” علم الفرائض ” في بداية تأسيس المدارس الفقهية، حيث كان هناك اجتهادات سابقة لذلك لبعض الصحابة, من أبرزهم زيد بن ثابت الأنصاري ( 615-665م ), الذي صاغ أصول التوريث، ونقلت عنه من بعده. إضافة إلى اجتهادات متفرقة من بعض فقهاء الصحابة.
ولا يوجد أي دراسات متوفرة حالياً تشير إلى الطريقة الرياضية التي كان يوزع بها الفقهاء هذه التركات. بمعنى أنه ليس من الواضح كيف كان يجري ” حساب التركات ” ( عدد الأسهم الكلي للتركة الذي يتطلب حسابه بعض المعارف الرياضية ) قبل أن يظهر علم الجبر بفضل الخوارزمي في مطلع القرن التاسع للميلاد. وربما كان يجري ذلك, ببساطة, على طريقة الحساب الذهني باستخدام بعض المبادئ الرياضية البسيطة, غير المبلورة.
ولكن مع بداية القرن التاسع الميلادي تغير الوضع تماماً عندما قام محمد بن موسى الخوارزمي ( الذي عاش في الفترة الواقعة ما بين العقود الأخيرة من القرن الثامن ومنتصف القرن التاسع للميلاد ) بتأليف كتابه الشهير ” الجبر والمقابلة “, الذي نشره أول مرة حوالي سنة 820 ميلادي. وبدأ بعضهم يطلق على هذه المحطة من تطور الرياضيات
يتألف كتاب ” الجبر والمقابلة ” للخوارزمي من كتابين ( قسمين ), متساويين تقريباً في الحجم. حيث يدرس الكتاب الأول منه نظرية المعادلات, والحسابات الجبرية, وحل المسائل المختلفة باستخدام نظرية المعادلات. والكتاب الثاني المُعَنون ” كتاب الوصايا ” يعالج مسائل الإرث والوصايا, وفق ما نص عليه الفقه الإسلامي, من خلال تطبيق الحساب الجبري على هذه المسائل الفقهية. ووفق ما يشير إليه الدكتور رشدي راشد في كتابه ” رياضيات الخوارزمي..تأسيس علم الجبر ” فإن هذا العمل العلمي الذي قام به الخوارزمي: ” كان عملاً تأسيسياً لمادة علمية استمرت تتطور من بعده, عُرِفت تحت عنوان ” حساب الفرائض “؛ فقد حوّل الخوارزمي في الكتاب الثاني هذا, وبفضل الجبر, ما لم يكن سوى حسابات فقهية, إلى مادة في الرياضيات التطبيقية تحمل اسماً ما زالت تحتفظ به حتى عصرنا “
ويقصد رشدي راشد بهذه المادة ما أصبح يسمى ” الجبر”. أي أن هذا العلم الجديد في الرياضيات ولد استجابة للتحديات العلمية التي كان يقدمها ” علم المواريث “؛ فضلاً عن أسباب علمية أخرى ساعدت على ذلك ليس هذا المجال لشرحها.
وقد استمر تأثير كتاب الخوارزمي ” الجبر والمقابلة ” في تطور الجبر والرياضيات حتى القرن السادس عشر الميلادي؛ لأن الرياضيات بدأت بعدها تدخل مراحل جديدة. في حين أن ما قام به الخوارزمي في حساب المواريث لم يزل حاضراً إلى يومنا هذا في ” علم الفرائض ” الذي بلوره علم الجبر. لذلك فإن دراسة “علم الفرائض ” حالياً تتطلب جهداً كبيراً, من الدارس المعاصر, بسبب أن مفاهيمه, ولغته, وطرائقه الرياضية, لم تزل من وحي الخوارزمي ذاته, وكأن الزمن توقف عند تخوم كتاب ” الجبر والمقابلة “. وجزء كبير من هذه اللغة لم يعد يصادفه الدارس سوى في هذا العلم حصراً, وهذا هو سبب صعوبته على الناس العاديين, وبقائه حكراً على الفرضيين ( العاملين بعلم الفرائض ).
وفي الختام نشير إلى أن دراسة تاريخ الرياضيات قد تكون منجماً للعديد من الأفكار المهمة التي تساعد على فهم تاريخ الشعوب التي أنتجت هذه المعارف الرياضية, وعقليتها, وليس مجرد دراسة تاريخ الرياضيات ( كحقل معرفي ) بمعزل عن المؤثرات الخارجية الأخرى.
المصدر
رياضيات أي عصر مؤشر على ثقافته”.. أمثلة من تاريخ الرياضيات
د. محمود باكير