وجب أن نسلّم بحقيقة أن الأنظمة المدرسية والمؤسسات التعليمية غير ملتزمة ولا حتى مهتمة بتطوير قدراتنا ومواهبنا الحقيقية. فالمدارس هي مجرّد ذراع للنظام الاجتماعي القائم، مهما كان نوعها، دينية، حكومية، اقتصادية… فتبعاً للنموذج السائد الذي تتبعه الشعوب، نرى أن تعليم الإنسان وتعريفه على حقيقة ما هو عليه لا يتناسب إطلاقاً مع النظام الهرمي القائم بين مختلف البنى الاجتماعية، الاقتصادية، الدينية، الحكومية، الأكاديمية… جميع هذه السلطات نفضّل أن تسيّر مصالحها بطريقة سهلة وميسّرة، وهذا بالتالي يتطلّب جماهير مفرغة العقول، غير ميالة للتمرّد والمناداة بأفكار غريبة عن المنطق السائد الذي يخدم مصالحهم على أكمل وجه.
العالم الأكاديمي في العصر الحديث
قتل العبقرية والإبداع
منذ بدايات القرن الماضي، ونتيجة للنهضة الصناعية الهائلة، بدأت المصالح الاقتصادية تتدخّل في أنظمة المدارس والمناهج التعليمية. وقد تجسّد هذا التوجّه بوضوح مثلاً، عندما أنشأ هنري فورد (صانع سيارات فورد) مدارس خاصة للتأقلم مع نظام المصانع والمعامل التي سادت في هذا العصر. لاحظ فورد أن العباقرة والمبدعين والبديهيين لا يتناسبون مع نظام هذه المصانع الصارم كما نظام الجيش. لأنهم كما قال، غير نافعين في نظام المعامل العصرية.
فأسس مدرسة خاصة (سماها المدارس العصرية) تعمل على تنشئة أجيال تستطيع مواكبة هذا العصر الصناعي الحديث. ووجب على المتخرجين من هذه المدارس أن يكونوا دقيقين، مطيعين للأوامر، يتحملون ساعات وأيام و شهور سنوات من الأعمال والمهمات التكرارية المملّة، دون تذمّر، دون كلام أثناء العمل، دون راحة، يحافظون على جدول العمل مهما كانت التكاليف. .تصوّر يا سيّدي كيف سيكون عقلك في هذا العصر الصناعي الذي بدأنا نشعر بدخوله إلى حياتنا اليومية… ويتسرّب إلى طريقة تفكيرنا. فبهذه الطريقة، تصبح أرواحنا أيضاً ضحية وليس فقط عقولنا. فالنموذج الذي يحكم هذا العصر يقول: إذا كنا من النوع الذي يسمع لأحكامه الشخصية (و ليس لأحكام غيره)، ويلتزم بقيمه، ويتمتع بثقة كبيرة بنفسه، سوف لن نتناسب مع هذا النظام الصناعي العسكري الذي بدأ رجال المال فرضه على الطبقات العاملة.
أما الإنسان الذي يعتبر ناجح في هذا العصر، فوجب عليه أن يتصف بمواصفات مثل: عدم الثقة بالذات، عدم الاستقرار نفسياً وحتى عقلياً، مما يجعله يتحمّل بيئة العمل الفاسدة والمهينة. فإما أن تتكيّف لتصبح الرجل المناسب للحياة العصرية، أو تذهب إلى الجحيم. لحسن حظ تلك المؤسسات والأنظمة الاجتماعية المتسلّطة، فإن المدارس الحالية تعمل على إنتاج كميات هائلة من النوعية المناسبة لها.
النظام التعليمي هو المسؤول الرئيسي عن قولبة رؤية الناس وتفكيرهم، وبالتالي وجهة نظرهم تجاه الواقع الذي يحيطهم. إن العلوم التقليدية المعترف بها و التي يتم تدريسها في المدارس لها تأثير أساسي وكبير على الطريقة التي ندرك بها العالم من حولنا . لذا فإن السيطرة على التعليم وعلى طريقة تقديم وشرح هذه المواد هي مسألة شديدة الأهمية بالنسبة للنخبة المسيطرة. إن الطفل ببساطة موجود في المدرسة من أجل أن يتم حشوه بـ “الحقائق” المتفق عليها و المقبولة من قبل النظام القائم ، ولكي يركض مع أقرانه من درس إلى آخر و يقصف رأسه بمعلومات لا تثير أية حماسة عنده ولا تشبع أيا من اهتماماته، فما يتعلمه في الحقيقة هو الامتثال في الصف الذي يسوده الضجر. فكل ما يتعلمه هو كيف يتعامل مع الملل القاتل. وبحسب هذا النظام القائم ، يتم قياس ذكاء الطفل وفقا لمدى استجابته وخضوعه لعميلة غسل الدماغ المنظمة وبحسب قدرته على استفراغ تلك “الحقائق” في الامتحانات، وفي الوقت نفسه يتم قياس جودة أداء المدرس بحسب سرعته و كفاءته في غرس هذه الأمور في أذهان الأطفال. أما المنهاج الدراسي ، فهو مرسوم بدقة ، ويتناول كتب مدرسية ذات مواصفات محددة، ويتعين على المدرسين ، ومهما كانت مشاعرهم وآرائهم الشخصية حيال المواد المقدمة ، أن يقوموا بتدريس هذه الكتب كي يحافظوا على وظائفهم . أما الأسئلة الحقيقية حول طبيعة الحياة، أو البحث في أسباب وجود التناقضات في التاريخ السخيف الذي يتم تعليمه، أو الرغبة في التعبير عن مكنونات الشخص الحقيقية و أحلامه، كل هذه المسائل ليس لها دور في هذا النظام التعليمي. الناس هم مجرد قطع صغيرة تعمل ضمن الآلة الجماعية العملاقة ، والأشخاص الذين يستطيعون تحمل القيام بهذا الدور هم الأشخاص الذين يعتبرهم النظام التعليمي “ناجحون”. وإذا كان التماثل ثمنٌ “النجاح” فإن أولئك الأشخاص الذين يسعون إلى وجهات نظر بديلة ويرفضون ما يغرس في أذهانهم من أكاذيب يتم معاقبتهم عن طريق وصمهم بالعار وجعلهم يشعرون بالفشل والهوان.
فالمدارس هي مجرّد ذراع للنظام الاجتماعي القائم ، مهما كان نوعها ، دينية ، حكومية ، اقتصادية … فتبعاً للنموذج السائد الذي تتبعه الشعوب ، نرى أن تعليم الإنسان و تعريفه على الحقيقة لا يتناسب إطلاقاً مع النظام الهرمي القائم بين مختلف البنى الاجتماعية ، الاقتصادية ، الدينية ، الحكومية ، الأكاديمية … جميع هذه السلطات نفضّل أن تسيّر مصالحها بطريقة سهلة وميسّرة، وهذا بالتالي يتطلّب جماهير مفرغة العقول ، غير ميالة للتمرّد و المناداة بأفكار غريبة عن المنطق السائد الذي يخدم مصالحهم على أكمل وجه.
لحسن حظ تلك المؤسسات و الأنظمة الاجتماعية المتسلّطة ، فإن المدارس تعمل على إنتاج كميات هائلة من النوعية المناسبة لها . فهي تخرّج أشخاص مهووسين ، يتملّكهم الخوف من أن يكونوا مخطئين ، و الخوف من عدم الحصول على العلامات المناسبة ( أكّدت دراسات نفسية أن 90 بالمئة من المتخرّجين من المدارس يعانون من هذه الحالة النفسية ) . فهؤلاء المتخرّجون لا زالوا مقتنعون بأنهم عاجزين عن وصول القمّة في أعمالهم ، لأن جميع إنجازاتهم ارتبطت بالعلامات . تعمل المدارس على زرع فكرة معروفة في جميع النظم الاجتماعية الأخرى ، هذه الفكرة تقول : .. أنت لست جيداً بما يكفي ، أنت لست بالمستوى المطلوب . لكن إذا قمت بتنفيذ ما يطلب منك دون نقاش ، سوف تتحسّن حالتك و سوف يتم مكافئتك …
عندما يصبح المتعلّم كاهناً
أما المتخرجون من عملية غسيل الدماغ هذه ، فيصبحون أفراداً لا يجادلون أبداً لما نهلوه من معلومات . مؤمنين تماماً بالواقع المزوّر الذي بنوا عليه أفكارهم و مفاهيمهم المزروعة . بالإضافة إلى قابليتهم لاستيعاب الحقائق و المعلومات المناسبة فقط لما تعلموه . أما المعلومات المخالفة لها فيرفضونها تماماً ! مهما أظهرته من صدقيَّة !. هذا السيناريو محزن فعلاً .. و لا يريد أحد سماعه أو تقبّله كحقيقة .. لكنه الواقع بعينه !.. و جميع الدلائل تصب في هذا الاستنتاج !.
فالفرد كلما نهل أكثر من المناهج التعليميَّة الرسميَّة كلما قلّ انفتاحه على الأفكار الغريبة عن تلك المناهج . أي كلما ارتقى في مستواه التعليمي زاد تعصبه و انغلاقه !. اعتقد أن هذا طبيعي إذا نظرت إلى الأمر من الناحية النفسية . فالإنسان يفضّل دائماً أن يبقى محافظاً على مستواه الاجتماعي الذي حققه نتيجة ما توصل إليه من التعليم الأكاديمي . فعندما يواجه هذا الإنسان المتعلّم حقائق جديدة تشير إلى واقع مختلف عن الواقع الذي تعلّمه فسوف يحكم عليها مباشرة على أنها خزعبلات ! دون حتى التريث و التفكير بمدى صدقها !.
فظهور أي حقيقة أو مفهوم مخالف للمنهج العلمي العام يشكل تهديداً لهؤلاء المتعلمين حيث إنَّ ذلك يضعهم مع موقعهم الاجتماعي و الأكاديمي و المهني على المحكّ !. و بما أن الإنسان في طبيعته يتوق إلى الإحساس بالأمان ، فبالتالي لا بدّ من أن يعمل كل ما بوسعه لكي يحافظ على هذا الشعور بالأمان !. بالإضافة إلى أن هؤلاء قد استنزفوا أموالاً طائلة ( و الوقت و الجهد ) حتى حازوا على المؤهلات التي تجعلهم عناصر مهمة في المجتمع . و آخر ما يريدونه هو مواجهة نظرة علمية جديدة مخالفة لنظريته و من ثم الاعتراف بها . هذه النظرة الجديدة التي قد تؤثّر سلباً على موقعهم و حياتهم العملية .
أنا لا أحاول التقليل من قيمة الأنظمة التعليمية القائمة حيث يوجد الكثير من المواضيع المهمة و المفيدة التي يتم تعليمها في الجامعات و الكليات و المدارس التقنيَّة و الصناعيَّة . فمعظم ما يتم تعليمه هو مهم و له فائدة كبيرة . لكن المشكلة تكمن في أن كل ما يتم تعليمه يتمحور حول نظرة محددة للواقع . و هذا الواقع الذي يحاولون ترسيخه في العقول هو بكل بساطة غير حقيقي . بالإضافة إلى أن هناك أموراً و حقائق كثيرة لا تذكر و يتم تجاهلها تماماً .
كما ذكرت في السابق، جميع السلطات تفضّل أن تسيّر مصالحها بطريقة سهلة و ميسّرة ، و هذا بالتالي يتطلّب جماهير مفرَّغة العقول ، غير ميَّالة للتمرّد و المناداة بأفكار غريبة عن المنطق السائد الذي يخدم مصالحهم على أكمل وجه . أما الوسيلة الأكثر نجاحاً في ترسيخ فكر أو منطق معيّن و تثبيته ، فهو إنشاء طبقة من الكهنة ! جيش من المنظّرين لهذا الفكر! يحرسونه و يحافظون على ثباته و رسوخه ! يحاربون الخارجين عنه ! و يكافؤن الموالين له !… أما الحقيقة الأصيلة .. فهي غير مدرجة في جدول العمل !!. فالأكاديميون القائمون على المؤسسات التعليمية يمثِّلون دائماً بيروقراطية بحد ذاتها ! هم غير مبدعين ! إنهم يعملون وفق المعلومات التي درسوها فقط ! موالون تماماً للسلطات التي قامت بوضعهم في مناصبهم ! و لهذا السبب ، هم يكرهون حصول تغيير في المعلومات التي اعتادوا على التعامل معها . فيرفضون حتى النظر بالفكرة الجديدة أو مناقشتها !. و لا يأبهون بالحقيقة! ولهذا السبب نرى أن الكهنة الأكاديميونهم أوّل من يعارض الأقكار الجديدة مهما أظهرته من مصداقية.