Archive for the ‘علم التاريخ’ Category
أهم الموسوعات تاريخ الدولة العثمانية 1 comment
تُعتبر موسوعة “تاريخ الدولة العثمانية”، لكاتب و المؤرخ والسياسي التركي يلماز أوزتونا، والتي صدرت بتركيا، عام 1988م، أحد أهم الموسوعات التي صدرت في هذا المجال،ومن أوسع وأهم ما تُرجم للعربية حول تاريخ الدولة العثمانية
ابن خلدون رائد التفسير العلمي للتاريخ Leave a comment
ابن خلدون رائد التفسير العلمي للتاريخ
أ. د. عبدالحليم عويس
لقد كانت النظرة التقليدية للتاريخ تهتمُّ – غاية ما تهتم – بجمعِ الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية، التي تتخذ صور المعاهدات أو التنازلات، أو ما إلى ذلك، من أمور تتصل بطريق أو بآخرَ بالخط السياسي والعسكري، وقلما كان قارئ التاريخ يجد بين ثنايا الكتابات الموضوعية أو الحولية البالغةِ حدَّ المجلدات – سطورًا أو صفحات تتناول ناحيةً فكرية أو اعتقادية، أو تحولاً اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبة شاملة – فضلاً عن النظرة الشاملة – ترصد سائر العوامل المحركة والمسهمة في صنع الحدث التاريخي!
وقد يكون بإمكاننا في هذا البحث أن نقول: إن ذلك المنهج – بصفة عامة – قد سيطر على حركة التاريخ البشري في سائر كتابات المؤرخين، باستثناء النظرات العارضة التي تناولْناها آنفًا، حتى ظهر ذلك العملاقُ العبقري المغربي الأندلسي المسلم عبدُالرحمن بن خلدون.
إلا أننا – خضوعًا للموضوعية – نضطر إلى القول بأن مؤرخنا المسلم العظيم قد استطاع أن يضع فعلاً رؤية نظرية لتفسير التاريخ بعواملَ مختلفةٍ، سماها طورًا: “العصبية الدينية أو القَبَلية”، وسماها طورًا: “البيئة”؛ (أي: الأثر الجغرافي)، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية.
إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسةً تاريخية تطبيقية نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول: إنه قد فتح عصرًا جديدًا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظِّ مؤرخنا الكبير، ومن سوء حظنا – كأمة ينتمي هذا المفكرُ العملاق إليها – أن إشعاعات ابن خلدون القوية واجهت أمةً نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاتُهُ بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور خلال القرون التي سبقتْ عصر اليقظة في أوربا؛ أي: الثامن والتاسع والعاشر للهجرة (الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للميلاد).
وبين صخب الصراعات الطائفية في المجتمع الإسلامي العريض، ضاعت إيقاعاتُ ابن خلدون، فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوربيون اتصلوا بعالم الإسلام المتحضر، وهذا حقٌّ لا يمكن إنكارُه؛ فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع – نحن المسلمين – الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أي إفادة، ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين تُرجمت أعمالُهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبًا، وقد كتب الأوربيون حول مقدمته الشهيرة – وهي الجزء الأول من كتابه الكبير: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” – عشرات بل مئات الدراسات؛ بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرجٍ في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التاريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرًا مباشرًا وقويًّا وحاسمًا في يقظة الحضارة الأوربية، وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبدالرحمن بدوي) حول الدراسات الأوربية عن ابن خلدون – في كتابه عنه – من الأدلة الواضحة على عمق هذا التأثير ووضوحه.
وقد تيقظ الأوربيون منذ بداية عصر النهضة على أصداء المقدمة، وقد بدؤوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعُدِ التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم: “الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها وهي تنسج سائر ألوان المعرفة نسيجًا واحدًا؛ لينير طريق الحياة الإنسانية”.
ويروج الأوربيون أن “فولتير” هو الذي بدأ هذه النظرة الشاملة للتاريخ؛ إذ إنه صاحب أول كتاب ذائع الصيت في تطبيق النظرية الجديدة في التاريخ، وهو كتاب: “رسالة في أخلاق الشعوب وروحها ووقائع التاريخ الرئيسة منذ شارلمان وحتى لويس الثالث عشر”.
لكن الحقيقة أن (فولتير) مسبوق بكثيرين، لعل من أهمهم “الراهب بوسية” الذي كان يرى أن التاريخ “دراما إلهية، مقدمته وكل حادثة فيه هي درس من السماء تعلمه للإنسان”، كما سبقه أيضًا المؤرخ المشهور: “جيوفانو باتستافيكو”، الذي كان يعترف بوجود العناية الإلهية (مثل الراهب بوسية)، ولكنه في الوقت نفسه كان يفسر أحداث التاريخ تفسيرًا أرضيًّا بشريًّا خاضعًا لقوانين شبه كلية، سواء كانت مسيرة التاريخ في اتجاه صحيح أو اتجاه فاسد.
وقد توصل (فيكو) إلى تقسيم ثلاثي للتاريخ على أساس أنه ثلاث مراحل: (مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة الحضارة)، وهو تقسيم يذكِّرنا بتقسيم (هيجل)، وتقسيم (أوجست كونت)، وإن كانت ثمة فروق كثيرة بينهم.
وعلى أية حال، فإن النظرة الأوربية تعتبر “فولتير” بداية عصر جديد في النظرة إلى التاريخ ووظيفته وتفسيره، لدرجة أن “أناتول فرانس” يبالغ فيسمي الفترة التي ظهر فيها “فولتير”: (عصر فولتير)، ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة، هي: عصر سقراط، وعصر هوراس، وعصر دابلين، وعصر فولتير.
والحق أن ابن خلدون هو المفتاح الكبير الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التاريخ، بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن كتابة التاريخ ينتظمها عصران:
• عصر ما قبل ابن خلدون.
• عصر ما بعد ابن خلدون.
ومهما وُجدتْ نظراتٌ متناثرة في تفسير التاريخ قبل ابن خلدون، أو وُجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية – على الأقل – يعتبر ابن خلدون مفرقَ طريقٍ بين مرحلتين، وليس ذلك في الفكر التاريخي الإسلامي فحسْبُ؛ بل في الفكر التاريخي الإنساني كلِّه.
وليست هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون رأيًا عنصريًّا أو عاطفيًّا، بل هي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوربيين، وسجَّلوها شهادات صريحة واضحة؛ فإن أكبر مفسر أوربي للتاريخ في العصر الحديث – وهو الأستاذ: (أرنولد توينبي) – يتحدث عن ابن خلدون في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه: “دراسة للتاريخ”، ويفرد في المجلد الثالث سبع صفحات (321 – 327)، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84 – 87)، وهو يقرر أن ابن خلدون “قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مراء أعظمُ عمل من نوعه ابتدعه عقلٌ في أي مكان أو زمان”؛ (المجلد الثالث ص322)[1]، وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: “إنه لم يستلهم أحدًا من السابقين، ولا يُدانيه أحد من معاصريه، بل لم يُثِرْ قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد طوَّر وصاغ فلسفة للتاريخ تُعَدُّ بلا شك أعظمَ عملٍ من نوعه”.
وأما المؤرخ العالمي (روبرت فلنت)، فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم: “تاريخ فلسفة التاريخ”:
“إنه لا العالم الكلاسيكي ولا النصراني الوسيط قد أنجب مثيلاً له في فلسفة التاريخ، هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التاريخ، فليس له مثيل في أي عصر أو قُطْر، حتى ظهر (فيكو) بعده بأكثر من ثلاثة قرون، لم يكن “أفلاطون” أو “أرسطو” أو “سان أوغسطين” أندادًا له، ولا يستحق غيرهم أن يُذكر إلى جانبه، إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته بعمق وشمول، لقد كان فريدًا ووحيدًا بين معاصريه في فلسفة التاريخ، كما “دانتي” في الشعر، (وروجر بيكون) في العلم، لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية، ولكنه وحده الذي استخدمها”[2].
ويقول عنه جورج سارتون: “لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخًا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ، سابقًا: ميكافيلي، وبودان، وفيكو، وكنت، وكورنو”!
وبما أن ابن خلدون أسبقهم زمانًا، وأبعدهم مكانة، وكلهم كانوا عالةً عليه، فمن البديهي أن نقول: إنه الإمام لمدرسة فلسفة التاريخ، إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية، نستطيع أن نسمِّيَه بلا تحفُّظ: (عصر ابن خلدون).
ولم يكن ابن خلدون مجرد رائد لتفسير التاريخ مع أسبقيته الزمانية لكل من ذكرناهم، فمع كل ما ذكرناه من ملاحظات عن الفكر الخلدوني بين التنظير والتطبيق، هناك جانب آخر يؤكد أصالة ابن خلدون وريادتَه في مجال التنظير العلمي للتاريخ.
فمن البدهي أنَّ تفسير التاريخ أو فلسفته إنما تقوم على أساس أن هناك قوانين في الحركة التاريخية يمكن اكتشافُها والإفادة منها في معرفة مراحل قيام الحضارات والدول، وأسباب سقوطها.
وبما أن مصطلح “قانون” يعني الثبات والاطِّراد والقَبول المستمر للتكرار عندما تتحقق الشروط إيجابًا أو سلبًا، على النحو المعروف في العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية، فإن القول بخضوع التاريخ لقوانين اجتماعية تشبه قوانين العلوم الطبيعية يؤدي إلى القول: بأن التاريخ علم، وبأنه لا ينفصل في ذلك كثيرًا عن العلوم الطبيعية، وبأنه بعيد عن مستوى “الفن” الخاضع للذاتية.
وبالتالي فإن إطلاق مصطلح “فن التاريخ” عليه – عند بعضهم – يكون من باب التجوز، أو يكون إطلاقًا خاطئًا نشأ من سيطرة المناهج التقليدية في دراسة التاريخ.
وجدير بالذكر أن الحديث عن فلسفة التاريخ أو تفسيره لا بد أن يتصل اتصالاً وثيقًا بقضيةِ علمية التاريخ؛ فهُما – في الحقيقة – وجهان لعملة واحدة.
وعندما نصل إلى الحديث عن ابن خلدون ومدى علمية التاريخ عنده، اعتمادًا على أنه أحد الفلاسفة المسلمين الكبار، الذي أبرز بعض قوانين الحركة التاريخية، مثل: قوانين السبب والمسبب، والتشابه والتباين، والاستحالة والإمكان، والجغرافية والبيئة وصلتها بتكييف الحضارة، والعصبية وصلتها بكِيان الدولة سقوطًا وصعودًا – عندما نصل إلى ابن خلدون، نجده أقرب ما يكون إلى القول بعلمية الحركة التاريخية، وأنه بالإمكان استخلاص قوانينها الاجتماعية المطردة، وهذا أمر يتساوى مع بنائه الفكري، بل هو جوهر تجديده، وأبرز ما انتهى إليه إبداعه، وما استحق من أجله الريادةَ والفضل.
لقد كان ابن خلدون مدركًا لثلاث قواعد إسلامية في تفسير التاريخ، عجز كثيرٌ من مفسِّري التاريخ المعاصرين عن إدراكها:
أولاها: أن التاريخ علم، لا يقل عن بقية العلوم الكونية، حتى إن عجزْنا عن اكتشاف كثيرٍ من مفاتيح القوانين التاريخية؛ نظرًا لأن الظواهر الاجتماعية أعقدُ من الظواهر الطبيعية.
وثانيها: أن هذه القوانين التي يمكن أن تخضع للسببية بطريقة حاسمة لا تتناقض مع فعل الله وإرادته وقدرته في التاريخ؛ إذ إن هذه الأسباب المادية هي وسائلُ الله، وهي جنوده وتعليماته الصارمة، بل هي الجِبلَّة التي فطر اللهُ الأشياء عليها، وهداها لتحقيق مشيئته – التي هي وظيفتها – من خلالها.
وتأتي المعجزات لتكشف بين الحين والحين عن يدِ الله الخفية القادرة، التي تبطل الوسائل، وتغيِّر التعليمات، في حالات استثنائية، ولظروف طارئة!
بل إن إرادة الله تعطي الوسائلَ والأسباب عنصرَ الفاعلية والإيجابية والبقاء، وتزوِّدها بإمكانيات رصد المستقبل – في حدود – واكتشاف بعض الآفاق الضرورية لنمو الحياة ورقيِّها؛ تحقيقًا لقوله -تعالى-: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، واكتشاف الأسباب وتسخيرها هو هذه الآيات.
ثالثها: أن ما يشاع عن وجود فوارقَ كثيرةٍ بين مستوى الثبات والاطراد في العلوم الطبيعية، وبين قوانين الحركة التاريخية – هو نوع من المبالغة؛ فالحق أن الفوارق بينها هي في النسبة لا في النوع؛ فهذه العلوم “العلمية” ذات “القوانين العلمية الثابتة” تتعرض كذلك لتحولات نسبية وتغيرات – بل وتناقضات – لا تقلُّ عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية.
لقد استعمل ابن خلدون كلمة “فن” كثيرًا وهو يتحدث عن علم التاريخ، وهذا الاستعمال الذي جاء في مثل قوله: “إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم”، أو قوله: “اعلم أن فن التاريخ…”، أو قوله: “صار فن التاريخ واهيًا”، هذا الاستعمال لا يعني إطلاقًا الميلَ إلى أن التاريخ “فن” بالمعنى المعروف لمصطلح “فن”، وهو أنه الإبداعُ القائم على الاتساق والذاتية والحرية في نسيج واحد.
فالشائع لدى أسلافنا – رحمهم الله – أن كلمة “فن” تخضع لكثيرٍ من القوانين والاطراد، وهي تطلق عندهم على علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا.
وبدليل آخر، هو أن ابن خلدون أطلق – كذلك – كلمة علم التاريخ في عملية مزج بين المصطلحين تخضع لرؤية تراثية؛ فقال مثلاً: “التاريخ علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق”، وقال: “المقدمة في فضل علم التاريخ”، وهكذا.
ويرى أحد المفكرين المعاصرين أنه من السهل ملاحظة التقارُب بين رأي ابن خلدون ورأي العلماء المعاصرين؛ فالعناصر الأساس في تعاريفه هي: الإنسان الماضي “والتقليب”، وهي مطابقة للعناصر التي وجدناها في تعاريفهم، بل يزيد على ذلك وجودُ التفلسف والتعليل، واكتشاف أسباب الحوادث[3].
لكن هذا المفكر المعاصر يرى – مع ذلك – أن ابن خلدون لا يرى علمية فلسفة التاريخ (في الرؤية الخلدونية)؛ لأن هذه القوانين المزعومة ليست مطلقة، والشاذ منها قد لا يقل عن القياس، والمهم في ذلك أن المؤرخَ – يعني: ابن خلدون – قد أبطل سلطانَها بنفسه؛ لأنه آمَنَ بالمعجزات، وقال بالسِّحر والطلسمات.
ثم يقرر الباحث – في حسم – أن ابن خلدون عرَّف التاريخ تعريفًا جامعًا يقبَلُه حتى علماء العصر الحاضر، وأنه وضع لدرس التاريخ أهدافًا مشابهة لأهدافهم، ولكنه لم يجعل من التاريخ علمًا بالمعنى المفهوم في الوقت الحاضر، رغمًا عن ابتكاره في فهم العمران والحضارة فهمًا لم يسبِقْه إليه علماءُ المسلمين[4].
والحق أن “العلمية” عند ابن خلدون – كما أوضحنا – لا تعني الاطراد الحتمي؛ فهذا الاطراد الحتمي غيرُ موجود حتى في العلوم الطبيعية، إن يد الله تسُوق الطبيعة الكونية والاجتماع البشري لمشيئة واحدة، والفَرْق يكمن في قدرتنا على الفهم والاستنباط، وليس من فعل الله، وحتى مساحة الحرية الممنوحة للإنسان تخضع لقوانين حضارية وأخلاقية، قد لا نبصر آثارَها إلا بعد أمدٍ من الزمان نَعجِزُ معه عن الربط بين الأسباب والنتائج، فضلاً عن أن القوانين كلها – كما ذكرنا – إنْ في الطبيعة أو في الإنسان – ليست صارمةً بالمعنى الماديِّ الذي يريد أن يُلغِيَ المقنِّنَ والمسبِّب؛ اعتمادًا على اطراد القانون والسبب.
ويشير باحث معاصر لهذه الحقيقة بعبارة واضحة، فيرى أننا – على ما يبدو – أمام صياغة جديدة للعلم، يبتعد فيها عن الحتمية، ويسلم بمفاهيم العشوائية وعدم الثبات واللاخطية، وبأن الطبيعة تتضمن مظاهرَ جوهرية لعشوائية الأحداث والانعكاسية، وبأن القوانين الحتمية التي صِيغتْ على امتداد القرون الأخيرة لا تنطبق إلا على حالات قليلة جدًّا مما يحدث في الطبيعة، إن طبيعية مألوفة وشائعة مثل اضطراب سريان الموانع والانتشار والتفاعلات الكيميائية – يستحيل وصفُها بالقوانين الحتمية، ولا تَكرار لحدوثها بنفس الشكل.
إن النتيجة المنطقية لهذا هي انعدام إمكانية التنبؤ بما سيحدث!
إن هذا التحول الجذري قد أدى إلى تقارب في المنهج بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وإذا ما كان هذا التقارب قد بدأ أيضًا بتحرك العاملين في العلوم الاجتماعية نحو تطبيق كثير من أساليب البحث في العلوم الطبيعية، مثل: التحليل الإحصائي، والنمذجة الرياضية، فإن الصياغةَ الجديدة للعلم الطبيعي – والتي تتبلور الآن أمام أعيننا – قد أظهرت أن النظم المعقدة التي تدرسها العلوم الاجتماعية ليست أكثر تعقيدًا من النظم الطبيعية.
إن الصياغة الجديدة للعلوم الطبيعية تسمح الآن – مثل العلوم الاجتماعية – مع وجود المعلومات غير الكاملة وأوضاع عدم الاستقرار في القيم (!) بالتسليم بإمكانية صعود أشكال متباينة للمستقبل، وتدعو إلى اهتمام أكثر تركيزًا على منظومة القِيَم في النظام الاجتماعي، والبُعد عن المحاولة اليائسة لصياغة علوم اجتماعية غير محملة بالقيم[5].
والحقيقة أن القصور في استقصاء كل حضارات التاريخ ووقائعه الجزئية لا يمثل خللاً رئيسًا في العملية التفسيرية للتاريخ، وإني لأستطيعُ أن أزعمَ أن العلم الطبيعي ليس أفضلَ كثيرًا من العلوم الإنسانية في هذا السبيل.
فالقوانين المستنبطة من الطبيعة لا تخضع لمنهج الاستقراء التام، وإلا لفقدتْ قيمتَها – من جانب – وأيضًا فإن ذلك غير ممكن، فضلاً عن أن الاستقراءَ التام لا يخدم مستقبل العلم في شيء ذي بال، وقد تعرَّضت المادة (التي يهلِّل بعضهم لثباتها) لكثير من التشكيك.
فعلم الطبيعة الذي يعد في رأي كثير من العلماء أوثق العلوم منهجًا ونتائج بحث، لم تستقرَّ أسسُه أو قواعده الأساس، فضلاً عن نتائجه حتى الآن.
فبعد هذه الرحلة الطويلة مع هذا العلم، يزعم العالم الرياضي الكبير (برتراند راسل) أنه علمٌ يقترب فقط من الكمال، وقولُه هذا مبالَغ فيه.
وقد رد عليه كثير من العلماء، مثل (هنري بوانكارية) الذي يرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى؛ فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف هذا العلم أين يقف، وقد تغيرت أفكاره الأساس عن حقيقة الطبيعة تغيرًا تامًّا في العشرين سنة الأخيرة فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما، ولم تعُدْ تسمح أعمال كوري ورذل فورد وسودي وآينشتاين ومينكوفسكي لأي تصور قديم عن الطبيعة “النيوتونية” بالبقاء (نسبة إلى نيوتن)؛ أي: إن عالَم نيوتن ونظرية النظام الوحيد للعالم – قد أصبحت مجرد أثر تاريخي متحفيٍّ، ولم تعُدْ مسألة التثاقل (Gravitatopm) مسألةَ جاذبية، بل تمزقت قوانين الحركة في كل جهة بنظرية النسبية.
وحتى في منهج البحث الذي وُصف طويلاً بأنه المنهج العلمي، فإنه قد تغيَّر، ولم يعُدْ يبحث في المادة – أي: المحسوس والحقائق الواقعية – بل أصبح مجموعة من القوانين المستوردة المجردة[6].
وقد أعجبني عندما كنت أقرأ كتاب “النظرية العلمية” لبرتراند راسل عنوانٌ لفصل وضعه المؤلف تحت اسم: (الميتافيزيقا العلمية)[7]، وقد تساءلت: هل ارتفع العلم إلى “الميتافيزيقا”؟ أم أنه هبط إلى منهجها – كما يقولون – بعد هذا الغرور الذي سيطر على الماديِّينَ؟!
وفي هذا الفصل (الميتافيزيقا العلمية) يسجل (راسل) أسفه؛ لأن رجل الشارع ما كاد يؤمن بالعلم، حتى بدأ رجل العلم يفقد إيمانه به؛ بحيث إن الفلسفة الجديدة لعلم الطبيعة فلسفةٌ متواضعة متلعثمة، بينما الفلسفة السابقة متكبرة متغطرسة.
لقد كان مفكرنا العظيم عبدالرحمن بن خلدون مدركًا بل مسلَّحًا برؤية إسلامية واضحة في تفسير التاريخ، ولم يجد أي تناقض بين الأسباب وإرادة الله، وبين الأسباب ونسبية الاطراد، وبين العلم والفن، وبين القوانين السببية والمعجزات الإلهية!
بل إنه كان أسبق في معرفة أن الفواصل بين القوانين الطبيعية والاجتماعية ليست كبيرة؛ لأنها تتحرك بإرادة واحدة، وتخضع لمشيئة واحدة، وتهدف لغايات واحدة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن خلدون يحتل مكانة في ريادة علم “تفسير التاريخ” على أساس موضوعي بحت، يتمثل في أن مقدمة ابن خلدون وما تلاها من أجزاء كتابه “العبر” – يُعدَّانِ بحقٍّ المحاولةَ الأولى لإعطاء تاريخٍ عالمي معلل، كما يُعَدَّان النظرية المتكاملة الأولى في التاريخ الإنساني لتفسير التاريخ.
وقد اتسمت منهجية ابن خلدون بالشروط الأساس لتفسير التاريخ، تلك التي لا يقوم (علم تفسير التاريخ) بدونها، وهي:
1- الشمولية العالمية في النظرة إلى التاريخ، أو حسب تعبير بعضهم “النظرة الكلية”: فالتاريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة لا يمكن أن تشكل أساسًا لتفسير التاريخ، ولا ينتظر أن يستقرئ كلُّ مفسر للتاريخ سائرَ الأمثلة التي تقدِّمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات؛ فذلك عمل – وإن كان هدفا مثاليًّا – إلا أن تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير، وحسْبُ مفسِّر التاريخ أن يقدِّمَ شرائح من حضارات مختلفة، بحيث تكون نتائجها المستخلفة صالحةً للتكرار والتعميم.
2- العِلِّية: فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العِلِّية، وأي فلسفة في أي علم من العلوم لا بد أن تعتمد على التعليل، وهذا من الفروق الأساس بين المنهج التاريخي التقليدي، والمنهج الحضاري أو منهج تفسير التاريخ.
والتعليل – أيضًا – يكون قابلاً للتَّكرار في أطرٍ حضارية أخرى، ولا بد أن يكون عامًّا شأن سائر القوانين، وأما التعليل الجزئي الذي يشبه (الحكمة) الخاطفة، فإنه لا يرقى إلى التعليل المطلوب لتفسير التاريخ.
والتعليل التاريخي الذي يعتمده مفسرُ التاريخ ليس تعليلاً جزئيًّا – كما ذكرنا – وليس تعليلاً خارجيًّا، بل هو تعليل باطني[8] مستقًى من الرؤية الشاملة الفلسفية لِما يقبع خلف الوقائع الظاهرة، إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومِن رَبْطها بإطارها العام.
3- الفكر: فإذا كان المؤرخ مجرد مسجِّل للحدث، باحثٍ عن الطريق الصحيحة لإثباته، فإن مفسِّر التاريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقَّدة في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره من حاضره؛ عن طريق بنائه بناءً تركيبيًّا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب، فالجانب المعرفي والفكري أساسٌ لمفسر التاريخ.
4- الحركة أو “الديناميكية”: المفسر للتاريخ يقدِّم لنا صورة تبدو وكأنها إعادةٌ حية “متحركة” للواقع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث؛ ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية و”البيولوجية” والفكرية والعَقدية والاقتصادية، ويربط بينها، ويعطي لكل عامل حجمَه في مرحلته التاريخية.
أما المؤرخ، فيقدم لنا التاريخ أقربَ إلى السكونية الجامدة، التي تعطينا جانبًا معروفًا منظورًا، ولا تحرِّك فينا جوانبَ الاستحضار والتفاعل والبصر بالعوامل الباطنية، وفي مقدمة ابن خلدون، ومن خلال عرضه لنظريته – نستطيع أن نتحقَّقَ من وجود هذه الشروط التي تجعله – بالقياس الموضوعي البحت – مفسِّرًا للتاريخ!
[1] نقلاً عن أرنولد توينبي: مقال بعالم الفكر، المجلد الخامس، العدد الأول، الكويت.
[2] نقلاً عن د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ، 124 / 135.
[3] د. عبداللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، بيروت، دار الأندلس، طـ2، 1982م، ص 277، 278.
[4] المرجع نفسه، ص 281.
[5] أسامة أمين الخولي، في مناهج البحث العلمي: وحدة أم تنوع؟ مجلة عالم الفكر، عدد إبريل 1989، الكويت.
[6] ول ديورانت، مناهج الفلسفة، 1/72 بتصرف، ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني.
[7] النظرة العلمية، ص 74، طبع مصر.
[8] انظر أحمد صبحي، فلسفة التاريخ، ص 139، طبع الإسكندرية
من موقع شبكة الألوكة
أشهر كُتب التاريخ المُختَصّة بالتاريخ الإسلاميّ Leave a comment
ظل تاريخ الطبري منذ زمن تأليفه، مصدراً ومرجعاً لجميع من يكتب في تاريخ الإسلام، حتى القرن السابع للهجرة، إذ كتب ابن الأثير (المتوفى عام 1233م / 630 هـ) كتابه الكامل في التاريخ ،استكمل ما توقف عنده تاريخ الطبري في سنة 302 هـ
وكتاب الكامل : وهو من أشهر كُتب التاريخ المُختَصّة بالتاريخ الإسلاميّ؛ إذ جَمع مُؤلِّفه ابن الأثير تاريخ وأخبار الملوك في الشرق والغرب، وذَكَر فيه التاريخ منذ بداية الزمان وحتى عام 628هـ، ويُعتبَر هذا الكتاب من أكثر الكُتب تنسيقاً، وترتيباً، وقد طُبِع أكثر من مرّة، حيث كانت المرّة الأولى ما بين عامي 1850 و1874م
والكتاب تضمن أخبار الحروب الصليبية مجموعة متصلة منذ دخولهم في سنة 491 هـ حتى سنة 628 هـ، كما تضمن أخبار الزحف التتري على المشرق الإسلامي منذ بدايته في سنة 616 هـ. وقد كتب ابن الأثير تاريخه بأسلوب نثري مرسل لا تكلف فيه، مبتعدا عن الزخارف اللفظية والألفاظ الغريبة، معتنيا بإيراد المادة الخبرية بعبارات موجزة واضحة. هو كتاب جمع فيه كل الحوادث التي حصلت في تلك الفترة
قصة تأسيس التقويم الهجري Leave a comment
يروى في كتب السير و التاريخ أنه في السنة السابعة عشرة للهجرة كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة ،وذكر في كتابه شهر شعبان فرد أبو موسى الأشعري أنه يأتينا من أميرالمؤمنين كتب ليس فيها تاريخ وقد قرأنا كتاباً محله شعبان فما ندري أهوشعبان الذي نحن فيه أم الماضي. فجمع الخليفة عمر الصحابة وأخبرهم بالأمروأوضح لهم لزوم وضع تاريخ يؤرخ به المسلمون فأخذوا في البحث عن واقعة تكون مبدأ للتاريخ المقترح فذكروا ولادته صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه ووفاته ، لكن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أشار بجعله يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة ، فراقت الفكرة للخليفة عمر وسائر الصحابة فأرخوا بها ، ثم بحثوا موضوع الشهر الذي تبدأ به السنة واتخذوا شهر محرم بداية للسنة الهجرية مع أن الهجرة النبوية الشريفة وقعت في شهر ربيع الأول
وذلك لسببين هما
أولا شهرمحرم هو الشهر الذي استهل بعد بيعة العقبة بين وفد من أهل يثرب والنبي صلى
الله عليه وآله وسلم أثناء الحج في شهر ذي الحجة فكأن الهجرة بدأت في ذلك
الوقت فقد أذن بها صلى الله عليه وآله وسلم وكان أول هلال يهل بعد الأذن هو شهر محرم
ثانيا أن شهر محرم كان بدء السنة عند العرب قبل الإسلام ولأنه أول شهر يأتي بعد منصرف الناس من حجهم الذي هو ختام مواسم أسواقهم
أحد أهم أسباب إنهيار إمبراطورية الإسبانية Leave a comment
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب الفصل الأول (ورثة العرب) صفحة 605 إلى609
لم يفكر النصارى، بعد أن استردوا غرناطة التي كانت معقل الإسلام الأخير في أوربة، في السيرعلى سنة العرب في التسامح الذي رأوه منهم عدة قرون؛ بل أخذوا يضطهدون العرب بقسوة عظيمة على الرغم من العهود، ولكنهم لم يعزموا على طردهم جميعهم إلا بعد مرور قرن،ومع ما كان يصيب العرب من الاضطهاد كان تَفَوقهم الثقافي على الإسپان عاملا في بقائهم على رأس جميع الصناعات، وكان من الصواب اتهام الإسپان إياهم بالاستيلاء على جميع المهن
وطالب الشعب بطردهم فقط، وبدا الإكلريوس (النظام الكهنوتي الخاص بالكنائس المسيحية) متطرفا فأشار بقتلهم جميعا رجال ونساءً وشيوخا وأطفالا، وسلك فليب الثاني(*) طريقًا وسطا فاكتفى بإعلان طردهم في سنة 1610م، ولكنه أمر بأن يُقتل أكثرهم قبل أن يُوفَّقوا لترك إسپانية، فقتل ثلاثة أرباعهم تقريبًا
وتم َّ الجلاء والذبح، وعمّ الفرح إسپانية؛ لما ظٌُن من دخولها عهد ًا جديدا
أجل، كان العرب يُضطَهدون في جميع ذلك العهد، ولكن مع بقائهم، وكان العرب ذوي شأن فيه بما لهم من التفوق الثقافي، وكان العلماء وأرباب الصناعات والتجارمن العرب وحدهم، لا من الإسپان الذين كانوا ينظرون إلى كل مهنة شزرًا، خلا مهنة الإكلريوس (رجال الدين) ومهنة الجندية
وكانت إسپانية تشتمل، إذن على جيلين مختلفين من الآدميين عاملين بمختلف الطرق على عظمتها، أحدهما من النصارى القابضين على زمام السلطة العسكرية،والآخر من العرب القابضين على ناحية الحضارة المادية
وكان وجود هذين الجيلين أمرا ضروريٍّا، وذلك أن السلطة العسكرية إذا كانت كافيةً لإقامة دولة فإنها تعجز وحدها عن إدامتها، وأن ازدهار هذه الدولة لا يكون إلا بتوافر بعض عناصر الحضارة، وأن تماسك هذه الدولة لا يدوم طويلا إلا ببقاء هذه العناصر

وهذا هو عينُ ما أصاب إسپانية بعد طرد العرب، فقد حلّ الانحطاط فيها محل العظمة ، وقد زاد انحطاطها سرعةً ما عَطِلَت من قادة عظام حربيين كالذين ظهروا في قرن واحد، وقد أضاعت كل شيء حتي خسرت سلطانها الحربي وحُرمت الحضارة معا
َ وكان من سرعة الانحطاط الذي عقب إجلاء العرب وقتلَهم ما يمكننا أن نقول معه : إن التاريخ لم يَروِ خبر أمة كالإسپان هبطت إلى دَركةٍ عميقة في وقت قصير جدًّا،فقد توارت العلوم والفنون والزراعة، والصناعة، وكل ما هو ضروري لعظمة الأمم، عن بلاد إسپانية على عجل، وقد أغلقت أبواب مصانعها الكبرى، وأُهملت زراعة أراضيها،
وصارت أريافها بلاقع، وبما أن المدن لا تزدهر بغيرصناعة ولا زراعة فقد خَلَت المدن الإسپانية من السكان على شكل سريع مخيف، وأصبح عدد سكان مدريد مئتي ألفِ بعد أن كان أربعمائة ألف، وصارت أشبيلية، التي كانت تحتوي 1600 حرفَة كافيةِ لإعاشة 130000 شخص، لا تشتمل على غري 300 حرفَة، وهذا فضلا ِّ عن خلوٌها منَ ثلاثة أرباع سكانها كما جاء في رسالة مجلس الكورتس (برلمان يسيطر عليه النبلاء) إلى الملك فليب الرابعُ ،ولم يبق ً في طليطلة سوى ثلاثة عشر مصنعا للصوف بعد أن كان فيها خمسون، وخسرتَ طليطلة جميع مصانعها الحريرية التي كان يعيش منها أربعون ألف شخص، ووقع مثل هذا في كل مكان، ولم تَُعتِّم المدن الكبيرة، كقرطبة وشقوبية ( مدينة تبعد عن مدريد حوالي 90كلم) وبُرغُش (وسط شمال إسبانيا تبعد عن مدريد حوالي 250 كلم ) ، أن أصبحت كالصحارى تقريبًا، وزال ما ظل قائما فيها من المصانع القليلة بعد تواري العرب،ٍ وكان من غياب جميع الصناعات في إسپانية أن اضطر القوم إلى جلب عمال من هولندة عندما أُريد إنشاء مصنع للصوف في شقوبية في أوائل القرن الثامن عشر
ونجم عن أفول الصناعة والزراعة في بلاد إسپانية على هذا الوجه السريع ما يشاهد فيها من البؤس العميق، ومن وقوعها في الانحطاط التام في قليل من السنين
ومصائب كتلك مما يقتل كل نشاط وحيوية بسرعة، وإمبراطوريةٌ واسعة لا تغرب الشمس عن أملاكها كتلك، كما قيل، لا بد من أن تقع في دور الهمجية المظلم علىعجل ما لم تُنقَذ بسلطان الأجنبي، ولذا اضطرت إسپانية، لتعيش بعد وهن، إلى تسليم زمام سلطتها العليا وشؤونها الإدارية وصناعتها وتجارتها إلى رؤساء من الأجانب كالفرنسيين والطلاينة والأملان … إلخ
ُ
ُ وأجمع كتَّاب العصر الذين زاروا إسپانية على الاعتراف بضعف مستوى الإسپان الثقافي، وكان هذا الضعف عميقًا عامًّا في أواخر القرن السابع عشر من الميلاد، وبدت تلك البلاد التي أضاءت العالم أيام سلطان العرب خاليةً من أية مدرسة لتعليم الفيزياء والرياضيات والطبيعيات، وصِرت لا ترى فيها كلها، حتى سنة 1776م كيماويٍّا قادراعلى صنع أبسط التراكيب الكيماوية، ولا شخص ً ا قادرا على إنشاء مركب أو سفينة شراعية، وذلك كما قال الكاتب الإسبانى كنيومانس مُؤِّكًدا
ولا مِراءَ في نجاح محاكم التفتيش المرهوبة في أعمالها، فقد أضحت جميع بلاد إسپانية لا تعرف غير كتب العبادة، ولا تعرف عملا غير الأمور الدينية، جاهلةً ما أتاه نيوتن وهارڨي وغيرهما من الاكتشافات العظيمة جهلا ٍّ تاما
ولم يسمع أطباء الإسپان شيئًا عن الدورة الدموية إلى ما بعد اكتشافها بقرن ونصف قرن، ويمكن استجلاء مستوى معارفهم بالأمر الغريب القائل: إن بعض الناس، في سنة 1760م، اقترحوا، مع التواضع، إزالة الأقذار التي كانت تملأ شوارع مدريد وتفسد هواءها، وإن رجال الصحة احتجوا على ذلك بشدة ذاكرين أن آباءهم العقلاء كانوا يعرفون ما يصنعون، وأنه يُمكن السكان أن يعيشوا مثلهم بين الأقذار، وأن رفعها ينطوي على تجربة لا يقدر أحد على كشف عواقبها