لقد قامت الأوقاف الإسلامية بدور رئيسي في تفعيل الرعاية الصحية من خلال إنشاء مؤسسات وقفية خاصة بالصحة كالبيمارستان، والمدارس الطبية ، فالدارس للتاريخ الإسلامي يجد تلازما بين تطورالأوقاف وانتشارها من جهة، وبين التقدم في مجال الرعاية الصحية من جهة أخرى، فالرعاية الصحية تعتبر من أهم مظاهر التقدم االجتماعي والحضاري لعلاقتها بالإنسان وتنمية قدراته
وكانت إيرادات الأوقاف كبيرة جدًّا، تُغطِّي حاجيات المستشفى مِن غذاء وكساء ومحروقات وأدوية وسواها؛ مِن دفع أجور الأطباء والممرضين والخدم
وقد لا يصدَّق لو لم تكن بين أيدينا وثاثق تؤكد هذه الحقائق، نقتطف منها نتفًا من وقفية المستشفى المنصوري الذي بناه منصور بن قلاون عام 683هـ/ 1285م
ولما نجزت العمارة وقف عليها الملك المنصور مِن الأملاك بديار مصر وغيرها ما يُقارب ألف ألف درهم في كل سنة، ورتَّب مصارف المارستان، والقبَّة، والمدرسة، ومكتب الأيتام، ثم استدعى قدحًا من شراب المارستان وشربه، وقال: قد وقفتُ هذا على مثلي فمَن دوني، وجعلته وقفًا على الملك والمملوك، والجندي والأمير، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكور والإناث، ورتَّب فيه العقاقير والأطباء، وسائر ما يحتاج إليه مَن به مرض مِن الأمراض، وجعل السلطان فيه فراشين مِن الرجال والنساء لخِدمة المرضى، وقرَّر لهم المعاليم، ونصَب الأَسِرَّة للمرضى، وفرَشها بجميع الفرُش المحتاج إليها في المرض، وأفرد لكل طائفة مِن المرضى موضعًا، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها، وأفرد قاعةً للرَّمدى، وقاعة للجَرحى، وقاعة لمَن به إسهال، وقاعة للنساء، ومكانًا للمَبرودين، ينقسم قسمين؛ قسمًا للرجال، وقسمًا للنساء
وجعل الماء يَجري فى جميع هذه الأماكن، وأفرد مكانًا لطبخ الطعام والأدوية والأشربة، ومكانًا لتركيب المَعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومواضع يُخزَّن فيها الحواصل، وجعل مكانًا يُفرَّق فيه الأشربة والأدوية، ومكانًا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء درس طبٍّ، ولم يُحصِ عِدَّة المرضى، بل جعله سبيلاً لكل مَن يَرِد عليه مِن غنيٍّ وفقير، ولا حدد مدة لإقامة المريض به، بل يُرتِّب منه لمَن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه
وقد بقي هذا المستشفى مثارًا لإعجاب السياح الأوروبين في القرون التي تلَت، حتى إن المستشفى والملجأ (لكانز فان ) الذى أسَّسه لويس التاسع في باريس بعد عودته مقهورًا من حملته الصليبية (652 – 659هــ/ 1254 – 1260م)، أسَّسه مُتأثِّرًا بالمسشفى المنصوري هذا
إن هذه التجربة الإسلامية العريقة في مجال الوقف الصحي يمكن تكرارها اليوم، مع الأخذ في الاعتبار فوارق الزمن وتغير الآليات وتجدد الأسـاليب، حيث إن للوقف الإسلامي خصائص تجعله مناسباً للصرف على الخدمات الصحية في العصر الحالي، منها استمراريته، وثباته، وحريته، ومرونته، حيث يهدف في النهاية إلى تحسين وتعزيز الصحة بشتى الوسائل
ويستطيع الوقف الإسلامي أن يكون رافداً كبيراً للخدمات الصحية التي تقدمها الحكومة، بل إنه كان الأصل في الصرف على الخدمات الصحية، كما سبق بيانه، ويمكن عند إعادة دور الوقف على الخدمات الصحية لما كان عليه أن تتفرغ الإدارات الحكومية لتنظيم الخدمات الصحية، وللتنسيق بينها والإشراف عليها
المصدر
إنجازات المسلمين في مجال الطب ( المستشفيات والعناية بالمرضى ) د. عبدالله حجازي
شبكة الألوكة
اترك تعليقًا